الثلاثاء، 9 يناير 2018

أصول الإدارة الحديثة في عهد عمر بن الخطاب (1)


تمهيد:

 
أردت في هذا الكتاب أن اتبع أسلوباً قد يكون مغايراً في طرح هذه الشخصية وهو أسلوب شخصية عمر والتنظيم الإداري للدولة والمعايير التي اتبعت في ذلك التوافق المريح بين إدارة الدولة وأسلوب التعايش مع دول ذات حضارات قديمة من نواحٍ كثيرة اجتماعية وثقافية واقتصادية وتطبيق سياسة الدولة الموحدة في جزيرة العرب والتي لم يسبق لها أن خضعت لأي تنظيم تحت إدارة مركزية والدول المفتوحة وبقدرات قد تفوق ما بحوزة العرب من علم وثقافة ومن ثم إظهار شخصية المدير ، ولكي نرى كيف تدار أول دولة بالإسلام وعلى أي أسس ارتكزت هذه الإدارة وهل هي عشوائية الخطوات قد يفاجئها الحدث فترتبك أم هي قادرة عن بث أسس الدولة الحديثة القائمة على العدالة والمساواة وهل هذه الأركان العامة مرتبطة بشخصية عمر أم هي أسس دولة تخلى عنها أصحابها وفيما بعد فأصبح ارتباط الحرية والعدالة الاجتماعي مرتبط بهذا الخليفة الفذ . كانت بداية هذا الكتاب فكرة أراد الله لها أن تصبح حقيقة في علم الإدارة ومقارنة بين الإدارة في عهد عمر والادارة الحديثة بأنماطها ، فأخذ الله بيدي وسهل لي الأمور وذلل الًِصعاب حتى أتطرق إلى تكوينات الشخصية من نمط التفكير إلى الاستنتاج المبني على قواعد كثيرة منها الفطرة ومنها المعرفة في كتاب الله وسنة رسوله ومنها استنباط ما آلت إليه الشعوب من خبرات إدارية والوقوف على أسسها في الإدارة وكيفية معالجة المستجدات من أمور الدولة  ، وربطها بالإدارة الحديثة من ناحية النظريات الحديثة للإدارة .

 
تنظيم فكر إدارة الدولة :

 

لقد أتاح هذه الأسلوب من التنظيم الإداري للدولة في عهد الخليفة عمر لوناً من الحياة مازالت الأمم المتحضرة في العصر الحديث مُقصِّرِة عن بلوغه ، فلم يكن عمر يملك من الوسائل الحديثة التي تعينه على تيسير ولاء دولة مترامية المساحات في عهود شهدت من القهر السياسي والاجتماعي والديني لرعاياها ما شهدت ، فرسم شكل دولة مغايراً لتلك العهود تقوم هذه الدولة على أسس العدل مع حسن الأداء في التوزيع مع الحقوقية الكاملة للمواطنة لجميع رعاياها دون تمييز  مما أضفى شعوراً عاماً لدى شعوبها بأن هذا الوطن يحتوي جميع قاطنيه دون استثناء ويدلل على  ذلك إحساس عمر بالذنب أن لم يمهد الطريق لتعثر بغلة بالعراق فما بالك في الإنسان وأنه تكفل في الضعفاء والأرامل من شمال إفريقيا إلى الجزيرة العربية دون تميز مما خلق طمأنة طبقية لدى شعوب الدول المفتوحة ، كتب عمر بن الخطاب لأهل إيليا (القدس) من معاهدة تثبت شمولية المواطنة دون إكراه " نص المعاهدة " هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، ولكنائسهم وصلبانهم ، وسقيمهم وبريئهم وسائر ملتهم ، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ، ولا ينتقص منها ولا من خيرها ولا من صليبهم ، ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ، وأنه لا يأخذ منهم شيء من الخراج حتى يحصد حصادهم " استمع لما يقول الأستاذ روم لاندو Rom Lando  أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة المحيط الهادي بأمريكا  مدللاً على ذلك العصر " وفي عصر كان السلب والنهب فيه هو القاعدة التي يتبعها كل جيش منتصر لدنٍ دخوله مدينة ما ، يبدو أن العهد الذي أعطاه خالد (بأمر من عمر) لأهل دمشق إنسانياً إلى ابعد الحدود فقد أعطاهم أمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم ولا يسكن شيء من دورهم " ، فقد كان عمر يفرض العطاء المنتظم لغير المسلمين من فقراء اليهود والنصارى والملل الأخرى داخل الدولة  " بل تعدى ذلك. فهذا نظام العطاء والدواوين (وهو سجلات تسجل بها أسماء المواطنين) تكفل رزق رعاياه جميعاً على نحو لم يعرف في التاريخ القديم وما أظن أن الحضارة الحديثة وقفت إليه ، فكل ما وصلت إليه إنما هو في أواخر القرن العشرين وهو ما يسمى التأمين الاجتماعي الذي تؤخذ نفقاته من الموظفين في شبابهم  لترد عليهم في الشيخوخة والعجز وأما أن يكون لكل فرد نصيب مقسوم من خزائن الدولة فشيء لم يعرف إلا  في عهد الخليفة عمر  .
يقول جورج كلود " أن تاريخ الفكر الإداري مرتبط بالتاريخ البشري ارتباط الفرع بالأصل وليس فكرة حديثة ، إلا أن الناس في القديم وإن كان فيهم مديرون لم يكتبوا عن الإدارة ، بل كانوا يمارسونها عملياً ، فعرفوا القيادة والتنظيم واتخاذ القرار والتوظيف لتنفيذه ...." ، إلا أنني أعقب على هذا القول بأن الخليفة عمر بن الخطاب أخذ يمارس التنظيم الإداري من عدة خبرات مكتوبة منها القرآن والسنة في الأحكام والسير والمعاملات وكذلك التعديل في السياسات الإدارية للدول المفتوحة بما يلاءم شكل واستقرار الدولة ونهج الإسلام ، وفي تطرق الأديب الأمريكي الأستاذ إيرفينج واشنطن (1783 م1859 م) في كتابه " محمد وخلفاؤه " يقول  أن حياة عمر من أولها إلى آخرها تدل على أنه كان رجلاً ذا مواهب عقلية عظيمة وكان شديد التمسك بالاستقامة والعدالة ووضع قواعد متينة للإدارة الحازمة في جميع البلاد التي فتحها المسلمون " ، أن عمر بن الخطاب ذو صفات عبقرية من القدرة والفهم وقوة اتخاذ القرار ولكنه لم يفكر أن تكن ذاته هو محور فخره ولم يستبد بهذه القدرة ليتمتع بها لمجده الشخصي كقائد فذ وليمدها لأولاده من بعده بل حضر هذا الشعور على أعز أولاده وهو عبدالله بن عمر وقال كلمته المشهورة ......... ، كما يحدث لكثير من القادة والزعماء في التاريخ ولو كان كذلك لتمتع بها برفاهية العيش والقصور  بل استمد من ذاته المكونة من قدرة فذة في نشر فكر دولة قامت على العدل الاجتماعي العام دون طبقية مميزة لا بالجنس ولا بالمعتقد حسب العقيدة الإسلامية ليمتد ظلالها على جميع رعايا الدولة  ، ولقد سخر لهذا الفكر  أولويات الحكم حسب أهميته في المحافظة على مكونات الدولة واستقرارها بل تعداها إلى فكرة متطورة جداً على ذلك الزمان وهي التكافل الاجتماعي من خلال كفالة الدولة لأفراد المجتمع جميعا وهي ما تسمى نظرية الأسرة الواحدة في الدولة وتكريس فكرة حرية الاعتقاد للدول التي فتحها فلم يقهرهم في معتقداتهم ولا ممتلكاتهم وهذا ما يذهب إليه عادة  الفاتحون المنتصرون من قهر وتعذيب ،  لما فتح عمرو بن العاص مصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب وجد أن البابا الأنبا بنيامين أسقف الكنيسة في الإسكندرية هارب في الصحراء المصرية منذ ثلاثة عشرة سنة خوفاً من الرومان المسحيين الكاثوليك الذين اضطهدوا المسحيين الارثوذكس الأقباط أهل مصر وسيطروا على الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وقتلوا أخو البابا بعد أن عذبوه بالنار حتى يتبع ملتهم فبعث عمرو بن العاص إليه وطلب منه أن يرجع إلى الكنيسة معززا مكرماً وذلك بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب ،  وأن يعطى ما أخذ  منه في عهد الرومان ، وأن يعاد بناء الكنيسة التي حرقت في عهد الرومان  الكاثوليك لاختلافهم في معتقداتهم  وهذا هو فكر حرية الاعتقاد ([1]). يقول المستشرق فون كريمر وكان العرب المسلمين في حروبهم مثال الخلق الكريم فحرم عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قتل الرهبان  والنساء والأطفال والمكفوفين.
 

وعلى هذه السيرة كان عمر يدير هذه الدولة  لتشمل الرحمة والعدالة في الحقوق والواجبات التي فرضها الإسلام ومن الجانب الآخر مقتبساً كثيراً من الفنون الإدارية للدول المفتوحة ، متمسكا بحقوق الطبقات المتوسطة والفقيرة في الدولة حسب ما جاء بها الإسلام ليكون هو من يمثلهم في قراراته .
 
لقد جال عمر في عالم دولته ليبدأ بفكرة رائعة يكَّون بها أركان الدولة وهي اهتمامه في إنسان الدولة بصورة عامة دون تميز أكثر من اعتناءه بفكرة المسلم ولم يسعى إلى تقسيم المواطنة إلى قسمين ، المواطن هو المسلم وغير ذلك يعتبر مقيم بصورة مؤقته ، وأعني بذلك شعوب الدول المفتوحة فلم يميز في العدالة والحقوق إلا بما أمر به الإسلام  ، انظر إلى قصاصه للمصري رغم أنه مسيحي من الأقباط من ابن عمرو بن العاص وهو ابن والي وفاتح مصر دون تمييز لدين .
إن فكرة المواطنة للمسلمين بمفهومها الضيق إن طبقت في تلك الدولة سوف تكون فكرة ضيفة محدودة بعدد المسلمين في الجزيرة العربية وأن أعدادهم قليلة بالنسبة لشعوب الدول المفتوحة مما لا يعطي المد الفكري والتناضج أو الامتزاج الثقافي مجالاً للانتشار ، لفكر آرائه الاجتماعية والاقتصادية تتناسب مع جميع الشعوب دون تمييز اجتماعي أو عرقي وهذا ما تسعى إليه الدول المتحضرة في الوقت الحاضر فلا فرق بين أبيض وأسود وعربي وأعجمي في الحقوق مصداقاً للحديث الشريف " لا فرق ...،  كذلك لا تكون للعدالة أي معنى إذا اقتصرت على فئة معينة دون غيرها بل هو امتياز لفئة على فئة في وطن واحد باسم العدالة أو حق الامتياز فلم تقم ثورة في التاريخ إلا اعتنت بفئة من قاموا عليها  وادعوا بذلك العدالة ،  فالثورة الشيوعية اعتنت بالفقراء وجارت على الأغنياء ، والثورة الغربية اعتنت بالرأسماليين الأغنياء  وجارت على الطبقات الفقيرة ،  ولكن عمر بن الخطاب اعتنى بفكرة العدالة الاجتماعية بصورة عامة دون تميز وبَذَلَ روح المساواة من خلال فكر إسلامي متسامح إلى أقصى حد فأنصف الفقير من طمع الغني ، والغني من نهم الفقير وأنصف الذمي من المسلم والمسلم من الذمي ،  أنظر ما قال عمر عندما أخطأ خالد بن الوليد في العطاء خطب عمر بالجابية بالشام وتحدث عن الأموال وكيفية القسمة وذكر منها :- إني اعتذر اليكم عن خالد بن الوليد فإني أمرته أن يحبس هذا المال  على ضعفة  المهاجرين فأعطى  ذا البأس ، وذا الشرف ، وذا اللسان فنزعته وأمرت أبا عبيدة ابن الجرح .
وهذا الفكر يعتبر قمة في الإنسانية مما منح الدول المفتوحة حب الانتماء والشعور بالأمان والتحول إلى شعوب موالية قد تشربت بروح الولاء يأمنون من خلالها على حياة مستقرة لهم ولمن يعولون دون سلب أو اعتداء مقارنة بما كان ، يذكر أبو عبيد القاسم بن سلام (154 – 224 هـ) أن رؤساء سواد العراق ، سكان البلاد الأصليين من غير المسلمين ، أتوا عمر بن الخطاب بعد انتصار جيوش المسلمين على الفرس فقالوا يا أمير المؤمنين إنّا كنا قد ظهر علينا أهل فارس فأضروا بنا وأساءوا إلينا وأخذوا يذكرون شيئاً من شرورهم وظلمهم " حتى ذكروا النساء " يعني أنهم غلبوهم على نسائهم . ثم قالوا له فلما جاء الله بكم أعجبنا مجيئكم وفرحنا ، فلم نردكم عن شيء ولم نقاتلكم حتى أخرجتموهم عنا " ، وهذا دليل قدرة هؤلاء على محاربة المسلمين ولكن تمنعوا  لإحساسهم بالإنصاف من الظلم الواقع عليهم من الدول التي سادتهم ، فالعدالة جاءت بالنصر قبل الجيوش .
 
إن عمر بن الخطاب حين نظّم أمور الدولة باعد بينها وبين الاستغلال المادي وطبق سياسة  أخذ حقوق الدولة من الأغنياء دون ظلم ومنح الفقير فرصة العيش الكريم دون إذلال ، ولقد أعلن هذا المبدأ بقوله :" والله الذي لا إله إلا هو ثلاثاً ما من أحد إلا له في هذا المال حق أعطيه أو أمنعه ، وما أحد بأحق به من أحد ، وما أنا فيه ألا  كأحدكم " ، وقال والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه. وهو بهذا الفكر فعَّل دور رعاية الدولة الشاملة أو دولة الرفاة وحق الطبقات الفقيرة في العيش في كنف الدولة وهو ما تلجأ إليه الدول الحديثة من مجانية في التعليم والصحة للطبقات الفقيرة ، ولم يخطر بباله أن تكون هذه الخدمات والمزايا كأسلوب قهر وإجبار عقائدي بدليل بقاء الكنائس والمعابد في العراق والشام ومصر منذ فتح عمر إلى يومنا هذا  لم يأمر بهدمها وإيماناً بحرية الاعتقاد ،  فقد أتت عجوز نصرانية في حاجة (يعني فقيرة ) إلى عمر فقال لها  ألا تعلمي أن محمداً على حق فقالت أنا عجوز وأريد أن أموت على ديني ، فأعطاها ما تريد ، فلما ولَّت قال اللهم أني أستغفرك فإني لم أجبرها لحاجتها ولكني عرضت عليها عرضاً .
شهدت دولة عمر تحولا وتغيرات كثيرة في التركيب الاجتماعي ومنظمات الدولة تمثلت في شعوب الدول المفتوحة ودخول كثير من هذه الشعوب في منظومة الدولة ، وإن هذه التغيرات في التركيبة السكانية للدولة تحتاج بالدرجة الأولى تنظيم الدولة تنظيماً إدارياً وكذلك إلى العنصر البشري  المؤهل والكفوء الذي يستطيع أن يمازج مركبات هذه الدولة من الناحية الاجتماعية لذا يُنظر إلى أي منظمة تقوم بهذا العمل على اعتباراتها جهد إداري منظم لتحقيق الهدف المشترك لتنظيم الدولة الناشئة ، وقد وجد عمر أن العنصر الانساني المتطور والمؤهل في الإدارة يلعب دوراً رئيساً في السلوك التنظيمي لحل تلك العقبات والمشاكل الناشئة من توسعها ، لذا فإن دراسة السلوك التنظيمي للدولة يكون مهماً لتحويل منظور منظمات الدولة تجاه الفرد وعلاقته بالجماعة التي يعمل بها والبيئة التنظيمية الداخلية والبيئة الاجتماعية الخارجية لذا كان لزاماً علينا دراسة هذه السلوكيات التنظيمية في  عهد هذه الدولة  ابتداء من تعريف مفاهيم الشخصية .


مفاهيم الشخصية  في علم الإدارة :
 
 
تعريف الشخصية :
 
يعرف Allport  الشخصية  بأنها التنظيم الدينامي داخل الفرد لتلك الأنظمة الفسيولوجية والسيكولوجية التي تحدد توافقه مع بيئته ، كما يعرف Gibson  وآخرون الشخصية بأنها " مجموعة من الصفات المتأصلة نسبياً في الفرد وتتكون من ميوله وأمزجته التي تشكلت بشكل واضح نتيجة لعوامل وراثية واجتماعية وثقافية وبيئية " ،  بينما يرى Driver  الشخصية بأنها : " التنظيم المتكامل والديناميكي للخصائص الفسيولوجية والعقلية والخلقية والاجتماعية للفرد ، كما يعبر عن نفسه أمام الآخرين في مظاهر الأخذ والعطاء في الحياة الاجتماعية ، وهي تشمل الخصائص الطبيعية والمكتسبة من الدوافع والميول والعواطف والمثل والآراء والمعتقدات والعادات ، كما تتضح من علاقة الفرد بوسطه الاجتماعي [1] ولعلنا بحاجة ماسة لهذه الدراسة لمعرفة نوع الدولة في عهد عمر وأبعاد الشخصية له ولمن قام بتوليتهم المسئولية الإدارية .
 
أبعاد الشخصية :
 
يعرف Random House  الشخصية بأنها مجموعة الصفات الفسيولوجية والعقلية والعاطفية والاجتماعية للفرد ، وعلى هذا التعريف يمكن تحديد مصادر تكون صفات وأبعاد شخصية الفرد والتي تؤثر على تشكيل السلوك أثناء تفاعل الفرد مع ظروف البيئة التي تحيط به وتفاعله مع الآخرين كما يلي : [2]
 
أولا : البعد الفسيولوجي :
ويعني تركيبة جسم الانسان كنظام متكامل يتصف به الفرد ويتفرع منه أنظمة فرعية مختلفة مثل نظام عمل الحواس ونظام عمل عضلات الجسم ، وبهذا فإن البعد الفسيولوجي يحدد مكونات جسم الانسان مثل طول القامة أو قصرها ولون البشرة ،،،،الخ .
 
ثانيا : البعد الاجتماعي :
ويقصد بذلك القيم والعادات والتقاليد التي يكتسبها الفرد من المجتمع الذي يعيش فيه ، ويشتمل  هذا البعد على جوانب عقائدية وخلقية وحضارية ....الخ .
يقول عمر " يا معشر العريب (تصغير عرب) الأرض الأرض، إنه لا إسلام إلا بجماعة ، إنه لا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ، ولا إمارة إلا بطاعة ، فمن سوده قومه على الفقه ، كان حياة له ولهم ، ومن سوده قومه على غير فقهٍ كان هلاكاً له ولهم " [3] فهو بذلك جمع المنظمة التي لا يسودها إلا العلم وهي رقي الدول . كذلك جمع بين الأرض والمجتمع والإمارة في منظومة الإدارة فالطاعة بالإمارة على علم ورضى من المجتمع يعني مجتمع متكامل في عطاءة .
 
ثالثا : البعد العقلي :
 
ويعني قدرة الفرد على التفكير واستخدام عقله في الدراسة والتحليل وتفسير الظواهر وحل المشاكل التي تواجهه خلال فترة حياته ، ولهذا البعد علاقة بالفطنة والذكاء والتعلم والثقافة .
 
رابعا : البعد العاطفي :
 
ويعني الجانب الانفعالي والوجداني والحالة المزاجية التي يتصف بها الفرد .
يقول عمر " نهينا عن التعمق والتكلف " [4] ويقول " إنما أخاف عليكم رجلين : رجل تأول القرآن على غير تأويله ورجل ينافس المُلك على أخيه " [5] فهو يدفع بالرضا والعدل وأن التنافس يكون في القدرة الكفاءة .
 

ان كل فرد تطغى على سلوكه أحد هذه الأبعاد ، فيتميز بها ويبرز سلوكه بحيث يحمل صفات هذا البعد ، فالفرد الذي يطغى عليه البعد الفسيولوجي نجد أن معظم سلوكه نابع من هذا البعد مثل القوة ، أما إذا كان البعد الاجتماعي مسيطراً  على الفرد فنجد أن السلوك نابع من البيئة الاجتماعية مثل الكرم والصدق والتدين ..الخ .

 

 

وفي حالة سيطرة البعد العقلي على الفرد فنجد أن جل سلوكه نابع من قدرته على استخدام عقله بحيث تتسم قراراته بالعقلانية والرشدانية والاتزان وبُعد النظر ، أما إذا كان البعد العاطفي مسيطراً على الفرد ، فنجد أن سلوكه نابع من انفعالاته وعواطفه ومشاعره.


 
وبالرغم من سيطرة أحد أبعاد الشخصية على سلوك الفرد ، إلا أنه يمكن لهذا البعد المسيطر أن يختفي في ظرف معين  ليحل محله بُعد آخر  من أبعاد الشخصية ليتماشى  مع الظرف الجديد الذي يعيشه الفرد ، وعندها يتحدد السلوك الفردي وفقا لهذا البعد الجديد وهي جزء من دراسة الذات في الإنسان .
 
نظرية الذات Self-Theory
 
تمثل نظرية الذات المداخل التقليدية في تفسير الشخصية الانسانية البالغة التعقيد وهي تحمل من الصفات الأولية ما يؤهلها لأن توحد مستقبلا جميع الآراء المتعارضة عن الشخصية الانسانية في نظرية متكاملة ومنطقية .
وطبقا لهذه النظرية يمكن النظر إلى الذات من ناحيتين [6] :
 
1 – الذات الشخصية (Personal Self)  وتعني الذات كما يراها الفرد نفسه ، فالصور التي يحملها الفرد عن نفسه هي محصلة تفاعل عمليات عديدة ومنها الادراك والدافعية والتعلم والمعتقد الديني ، وأن الفرد لا يكون سلوكه متوافقا مع نظرته لنفسه . يقول عمر " إن الوالي لا يصلح إلا بأربع – إن نقص واحدة لم يصلح له أمره – قوةٍ على جمع هذا المال من أبواب حلهِ ، ووضعه في حقه ، وشدةٍ لا جبروت فيها ، ولين لا وهن فيه " [7] وكتب إلى أبي موسى الأشعري " إن الحكمة ليست عن كبر السن ، ولكنه عطاء الله يعطيه من يشاء ، فإياك ودناءة الأمور ومذاق الأخلاق " [8]
2 – الذات الاجتماعية : (Social Self)  وتعني كيفية تصور الآخرين للشخص من ناحية ، وما يعتقده الفرد نفسه حول نظرة الغير له .
ترى نظرية الذات أن أهم دافع لدى الانسان هو تحقيق الذات أو اثبات الذات ، كذلك أكدت هذه النظرية على أهمية قبول الذات ذات الإنسان نفسه ، فتقبل الفرد لذاته وثقته بنفسه وبقدراته تدفعه لتحقيق المستوى المناسب من الانجاز في حين إذا نظر الفرد لنفسه وقدرته بصورة مختلفة فسيدفعه ذلك إلى التراجع والتراخي في العمل وبالتالي ينعكس على السلوك التنظيمي في إدارة نفسه أو يدار من الغير ولابد في هذه الحالة أن نتذكر أن لكل شخص ذاتاً متميزة ، فاتباع القيادة الموجهة من قبل مدراءه بالأوامر المباشرة لشخص متميز بذات مستقلة يتسم بالذكاء والثقة بالنفس يكون غير فعّال ، في حين أن اتباع نفس الاسلوب القيادي على فرد آخر يتسم بذات غير مستقلة وتميل إلى الاعتماد على الغير وغير قادرة على اتخاذ القرارات قد يكون فعّالاً إلى حد كبير ، وهذا يوضح البعد الذي تلعبه نظرية الذات في الجوانب المختلفة من تحليل السلوك التنظيمي وأهميته في إدارة شئون الدولة ، السبب في تسليط الضوء على دراسة موضوع الشخصية ذات العلاقة المباشرة بالأداء في المنظمة ، مثل الرغبة في الانجاز والسيطرة وتكوين علاقات اجتماعية وتحمل المخاطر والاستقلالية في العمل وأخذها في الاعتبار عند قرارات التعيين والترقية والحفز ,,,,,الخ . وتنبع أهمية دراسة الشخصية من التنبؤ بالأنماط السلوكية للأفراد الذين يقومون بإدارة المنظمة ، ولا تقتصر دراسة الشخصية على المديرين فحسب إنما تهم الباحثين أيضا في مجال السلوك التنظيمي حيث تهدف دراساتهم إلى التنبؤ بالجهد ونوعية الأداء وكميته وقرار قبول أو رفض وظيفة معينة لأشخاص بسبب هذا التحليل ودوران العمل وذلك بالاعتماد على معلومات عن الشخصية المطلوب تعيينها  رغم أن هذه الدراسة حديثة في نظرية الذات ،  إلا أنها قد تنطبق على شخصية هذا القائد "عمر بن الخطاب " ، فصفته الخلقية كان رضي الله عنه طويلا جسيماً مجدول اللحم غليظ القدمين والكفين يمشي كأنه راكب على دابه وكان قويا شديداً لا واهناً ولا ضعيفاً ، وكان إذا مشى أسرع وإذا تكلم أسمع وإذا ضرب أوجع وهذا ما يسمى حسب ما ذكرنا سابقاً بالبعد الفسيولوجي ، وكان له مقومات أخرى وهي إلمامه بالقراءة والكتابة ويقينه بمعتقده الديني والادراك والدافعية وهنا يظهر البعد العقلي جلياً، كذلك كان من فرع  بني عدي في قريش الذي اختص بالتحكيم والسفارة ولم يكن هذا الفرع غنيا لذا أراد أن يثبت قدراته الاجتماعية والعقلية وهذا ما أظهر البعد الاجتماعي،   وقد أهلتّه هذه إلى أن يثقف نفسه بثقافة القوم آنذاك ، وأن كان الرافد القوي الذي اثر في شخصية عمر وصقل مواهبه وفجر طاقاته وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله (ص) وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة واكتساب منابع الإدارة ومعرفة قدرات الناس من حوله وتوزيع الأدوار حسب الفهم والإدراك والعزيمة ، وهذا يوقفنا على الينبوع المتدفق الذي استمده عن علمه وتربيته ومعرفته بالأحداث التي مرت وكيفية معالجة الرسول (ص) لها دون تسرع وبالحكمة التي توازن بين المصلحة العامة وتعاليم الدين ، ومعرفته بطبائع النفوس وغرائزها ، يقول الرسول (ص) " لقد كان فيما قبلكم  من الأمم محدثون ، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر [9]  وفسرت كلمة محدثون بالملهم والمتفرس ،  ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : رأيت عمر يعدو فقلت يا أمير المؤمنين أين تذهب ؟  فقال بعير ند من إبل الصدقة أطلبه ، فقلت لقد اتعبت من بعدك ، فقال عمر فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالنبوة ، لو أن عنزاً ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة .[10]
ويقول حذيفه بن اليمان " كأن علم الناس كان مدسوساً في حِجر عمر " ، وقالت عائشة أم المؤمنين " كان والله أحوذياً نسيج وحدة " [11]  ، وقد عاشره أناس من الدهاءة فخبروه وحذروه ، قال المغيرة بن شعبة لعمرو بن العاص وكانا من دهاة العرب : " أأنت كنت تفعل أو توهم عمر شيئاً فيلقنه عنك ؟  والله ما رأيت عمراً مستخلياً بأحد إلا رحمته كائناً من كان ذلك الرجل  ، كان والله عمر أعقل من أن يخَدع وأفضل من أن يُخدع " .
 
أنظر إلى ما تقول النظرية الشخصية في البعد العاطفي كيف تقول في حال سيطرة البعد العقلي فان جل سلوكه نابعاً من قدرته على استخدام عقله بحيث تتسم قراراته بالعقلانية والراشدية والاتزان وبُعد النظر وقد استنكر عليه أبو عبيدة بن الجراح أن يخوض مع بعيره الماء وهو أمير المؤمنين في فتح بيت المقدس فيجيبه أوه يمد بها صوته لو غيرك يقول هذا يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأقل الناس وأحقر الناس فأعزكم الله بالإسلام فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله (رواه ابن المبارك في الزهد والرقائق 584) . وبهذا التواضع فتح بيت المقدس بل قال له أحد  القساوسة هذه هي الصفة المكتوبة عندنا .
 
وهذه نظرية الذات الاجتماعية يعلنها عمر ، أكدها في أحد خطبه : بلغني أن الناس هابوا شدتي ، وخافوا غلظتي ، وقالوا قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ،  ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه ، فكيف إذا صارت الأمور إليه . ومن قال ذلك فقد صدق ... إنني كنت مع رسول الله ، فكنت عبده وخادمه ، وكان لا يبلغ صفته من اللين والرحمة ، وكان ...كما قال الله تعالى " بالمؤمنين رؤوفا رحيماً ، فكنت بين يديه سيفاً مسلولاً  حتى يغمدني أو يدعني فلم أزل مع رسول الله حتى توفاه الله وهو عني راض ، والحمد لله وأنا به أسعد ، ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر ، فكان من لا تنكرون دعته وكرمه ولينه ، فكنت خادمه وعونه ، اخلط شدتي بلينه ، فأكون سيفا مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني حتى قبضه الله وهو عني راض والحمد لله ، ثم أني وليت أموركم أيها الناس ، فاعلموا أن تلك الشدة قد تضاعفت ، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين ، فأما أهل السلامة والدين والقصد ، فأنا ألين لهم من بعضهم  لبعض ولست أدع أحداً يظلم أحداً حتى يذعن بالحق ، لم تكن خطبة عمر هذه من قبيل الوعود الانتخابية التي تلقى لمناسبات معينة ، ثم يطويها النسيان  ، ولو وزنت الأمور بميزان العصر ،  لوجدنا لكل سلطات دولة هناك فئة معارضة ومن خلال المناقشة تتضح تتبلور الآراء ، بل أن بعض الدول أحلت مكان المعارضة نظام النقد والنقد الذاتي وتقييم الأداء للدولة وهذه ملامح دولة عمر كان خليطاً بين الرأي المخالف والنقد الذاتي فلم يشهد عمر معارضة لطرحه إلا تقبلها ان كانت مع المصلحة العامة دون فرض رأي احادياً من قبله .
 
وكان يشعر شعوراً عميقاً بثقل أعباء مسئولية الدولة وهذا دليل آخر على سيطرة البعد العقلاني والاتزان في القرار ، يقول عمر :" إنما مثل العرب مثل جمل أنَفَ اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده ، فأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق  ، " اسمع ما يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في عمر ، قال نافع العبسي " دخلت حيز [12] الصدقة مع عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وعثمان بن عفان ، فجلس عثمان في الظل يكتب وقام على رأسه علي يملي ما يقول عمر ، وعمر في الشمس قائم في يوم حار  يعد إبل الصدقة يكتب ألوانها وأسنانها ، فقال علي رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه : في كتاب الله " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين "  ثم اشار علي رضي الله عنه بيده إلى عمر فقال هذا القوي الأمين ، انظر إلى التوازن بين قدراته وقدرات الناس ، ويقول عمر إذا كنت في منزله تسعني وتعجز عن الناس ، فوالله ما تلك بمنزلة حتى أكون اسوة للناس " [13] .
وللحقيقة فإن التهيئة بوجود قائد وبيئة صالحة موافقة للعمل لا تحدث كثيراً لجميع الدول فقدراته كقائد وتهيئة بيئة عمل مناسبة وأصحاب يدفعون إلى تعزيزها تدفع إلى دولة ناجحة بجميع المقاييس ، فلنبدأ بنظرية الذات في شخصية عمر.
 
 
نظرية الذات في شخصية عمر :
 
1 – أولا الوراثة : -
 
فعمر بن الخطاب من قبيلة عدي بن كعب وهي قبيلة رغم مكانتها إلا أنها قليلة العدد وعلى جانب محدود من الثراء ، إلا أنها كانت تمتاز بالدراسة والعلم والحكمة ، وقد أهّلتها هذه الصفات إلى أن تتبوأ وظيفة السفارة والتحكيم في المنافرات بين قريش وقبائل العرب فكانت المتحدثة عن قريش .
 
ثانيا : إحساس عمر بوطأة الظلم ، فقبيلة بني عدي اضطرها بنو عبد شمس وهي فرع آخر قوي من قريش ، في حياة الخطاب والد  عمر من الجلاء عن منازلهم ، كما أن عمر بن الخطاب نفسه قد تعرض إلى معاملة قاسية من والده الخطاب بسبب الفقر ، ومن تعرض للظلم فإنه غالبا ما يثور عليه وينفر منه لإدراكه بإحساس المظلوم كما أنه انسجم بين القدرة الفكرية والجسمية والراشدية .
 
السلوك الاداري لرجل الدولة :
 
وعلى هذا يكون عمر بن الخطاب رجل دولة من طراز فريد يعرف تحليل الأحداث والاستقراء من المداليل العامة وبالتالي ترتيب مسؤوليته من ناحية أهميتها ودقائقها ويتحمل هذه المسؤولية. ومعرفة القدرة من حيث الممكن والمتاح ولا يتنصل منها وعليه كوَّن منظمته بدقة من خلال اختيار من قواد وأمراء يقود دولته وبذلك يكون قد ناسب شكل قواده وقدراتهم مع احتياج الدولة، أنظر في وصاياه لقائده سعد بن أبي وقاص عن الحذر واليقظة ، والمسير والاستراحة الاسبوعية ، واداته سلاح الجيش وخيوله ، والمحافظة على أهل الذمة ، واتخاذ التدابير التعبوية للأمن أنها دليل على معرفة عمر لرجاله فرداً فرداً ، من ناحية الكفاءة والقدرة ، وتلك مزيه الاختيار الإداري حسب ما أسلفنا جعلته لا يخطئ في اختيار الرجال لمعاونته في تحمل أعباء الحكم في الحرب وفي السلم ، فالمسئوليات تتجزأ في علم الإدارة من أعلى إلى أدنى على أن يتحمل الأعلى مضامين القرار وأول تلك القرارات هو أسلوب اختيار القوى البشرية Human Sources .
 
مفهوم القيم والاتجاهات في السلوك الإداري  الحديث [14]
 
لعل مفهوم القيم يحتل مرتبة متقدمة في المنظومة الإدارية كتعرف مهم في مشروع أي منظمة للدولة ، ولنتطرق إلى هذا المفهوم المهم في علم الإدارة، فقد يقع الأفراد كثيرا في خلط بين مفهومي القيم والاتجاهات ، وهناك  من يدمج بين المفهومين ويتمنع عن التفريق بينهما ، يقول علي السلمي : إنه ليس هناك اي فائدة عملية من الفصل والتمييز بين المفهومين لأنها جميعاً عبارة عن وجهات نظر شخصية يكونها الانسان بناءً على تقييمه للأمور ، بينما هناك وجهة نظر مغايرة تقوم على الربط بين مفهوم القيم ومفهوم الاتجاهات .
ويجب القول أن ظهور القيم ناتج عن عملية التفاعل والتداخل بين الاتجاهات  يقول إيزينك : " أن ترسيخ الاتجاهات وتفاعلها  وخضوعها لعمليات الانتقاء والتعميم يؤدي في النهاية إلى نتيجة عامة متوافقة  ومنسجمة تتحول إلى قيم ويتم ذلك وفق الميكانيكية التالية :
 
آراء معتادة  -----------------  اتجاهات ------------------ قيم
وهي في نمط الإدارة قد تتغير في مفاهيم الناس أو تقوم حكومات بتغيرها كالحث على الالتزام والنظام والالتزام بالعمل .
بينما يرى العالم Rokeach ضرورة الاعتراف بوجود فروق جوهرية بين الاتجاهات والقيم ، فالقيم تمثل معياراً للسلوك بينما الاتجاهات  لا تعتبر كذلك ، كما أن القيم لا ترتبط بهدف أو موقف معين على عكس الاتجاهات التي ترتبط بشكل وثيق بهدف  أو موقف معين ، كذلك فإن القيم يمكن تحديدها وحصرها بينما الاتجاهات لا يمكن تحديدها بأي حال من الأحوال وذلك لكثرتها حول الظواهر المختلفة ، ونجد أن للقيم أيضا وضعاً متميزاً وحساساً في شخصية الفرد حيث أن لها المقدرة (على التأثير على الاتجاهات في ترسيخها وتعميقها أو تغييرها وتعديلها بالاتجاه المطلوب ، بينما الاتجاهات لا تمثل هذه المكانة في شخصية الفرد من حيث الوضع والتميز والحساسية .
وتُعرَّف القيم بأنها  المعتقدات التي يعتقد أصحابها بقيمتها ويلتزمون بمضامينها [15] كذلك تعرف بأنها اعتقاد ضمني أو تصريح تعبر عما يعتقده فرد أو جماعة معينة بأنه المسلك المفضل ، ويؤثر في اختيارهم لطرق وأساليب وغايات التصرف [16] وتعرف أيضا بأنها المعاني التي يعطيها الفرد أهمية كبرى أو تقديراً كبيراً في حياته وسلوكه من المغامرة  والعدل والشجاعة وغيرها من الصفات .[17]
وفي الإسلام فإن للقيم أهمية في بناء سلوك الإنسان متمثل في الصدق والأمانة و الالتزام والرحمة ومدى الالتزام بها يعني تطور مهم للدولة .
انظر كيف ينظر بقامة أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر وكيف ينصحانه وقد أتاه كتاب منهما فيه:" سلام عليك ، أما بعد ، فإنا عهدناك وأمرُ نفسك لك مهم ، وأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها ، يجلس بين يديك الشريف والوضيع والعدو والصديق ولكُلٍ حصته من العدل فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر ، فإنا نحذرك يوماً تعنو [18] فيه الوجوه ، وتحف [19] فيه القلوب ، وتقطع فيه الحجج ، يملك قهرهم بجبروته والخلق داخرون له ، يرجون رحمته ويخافون عقابه ، وإنا كنا نحدث أن أمر هذه الأمة سيرجع إلى آخر زمانها : أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة ، وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا فإننا كتبنا به نصيحةً لك والسلام .
فكتب إليهما : من عمر بن الخطاب إلى عبيدة ومعاذ ين جبل ، سلام عليكما ، أما بعد ، فإنكما كتبتما إلي تذكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مهم ، وإني قد أصبحت وُليتُ أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها ، يجلس بين يدي الشريف والوضيع والعدو الصديق ، ولكل حصةٌ من ذلك ، وكتبتما فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر ، وإنه لا حول ولا قوة عند ذلك لعُمر إلا بالله ، وكتبتما تحذراني ما حُذرت به الأمم قبلنا ، وقديماً كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقربان كل بعيد ويبليان كل جديد ويأتيان بكل موعود حتي يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار ، كتبتما تذكران أنكما كنتما تحدثان أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة ولستم بأولئك ، ليس هذا بزمان ذلك ( يعني آخر الزمان ) وأن ذلك الزمان تظهر فيه الرغبة والرهبة ، تكون رغبة بعض الناس إلى بعض لصلاح دنياهم ورهبة بعض الناس من بعض ، كتبتما به نصيحة تعظاني بالله أن أنزل كتابكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما ، وإنكما كتبتما به وقد صدقتما ، فلا تدعا الكتاب إلي فإنه لا غنى بي عنكما والسلام عليكما ."[20]
 
 
 
 
 
 
خصائص القيم :
 
هناك عدة خصائص تتميز بها القيم [21]
 
1.   انها انسانية غير ملموسة لا يمكن قياسها كالموجودات .
2.   انها صعبة الدراسة ، دراسة علمية بسبب تعقيدها وتشعباتها.
3.   انها نسبية ، أي تختلف من شخص لآخر بالنسبة لحاجاته ورغباته وتربيته وظروفه ، ومن زمن إلى زمن ، ومن مكان إلى مكان آخر ، ومن ثقافة لأخرى .
4.   تترتب فيما بينها ترتيباً هرمياً ، فتهيمن بعض القيم على غيرها أو تخضع لها .
5.   تؤثر القيم في الاتجاهات والآراء والأنماط السلوكية بين الأفراد .
6.   مألوفة ومعروفة لدى افراد المجتمع ومرغوبة اجتماعيا لأنها تشبع رغبات  الناس  اجتماعيا واخلاقياً .
7.   انها ملزمة وآمرة لأنها تعاقب وتثبت ، كما أنها تحرم وتفرض .
 
أهمية القيم :
 
تعتبر القيم أحد الجوانب الهامة في دراسة السلوك التنظيمي لمؤسسة نظامية ومدى نجاحها ويعود السبب في ذلك إلى أنها تشكل أساسا لفهم الاتجاهات والدوافع وتؤثر على إدراكاتنا ، وبالتالي يفهم أسباب من قام بها ، كذلك ينظر إلى القيم كقوة محركة ومنظمه للسلوك ، وتعتبر القيم كمعيار يلجأ إليه العامة أثناء اجراء مقارنات  بين مجموعة من البدائل السلوكية ، وكعامل موحد للثقافة العامة ، وتعتبر القيم ايضا كمحدد للأهداف والسياسات بحيث يجب أن تكون هذه الأهداف متوافقة ومنسجمة مع القيم ، كما أنها تبرز الاختلافات الحضارية بين المجتمعات المتنوعة ، وهذا يؤثر على السلوك التنظيمي بشكل واضح ، فقيم المجتمعات تتنوع من حيث الاخلاص والأمانة والاحترام والجدية وطاعة أوامر المسؤولين والعدالة رغم تباين المفاهيم، وبالتالي فإن من الضروري معرفة وفهم القيم السائدة  في أي مجتمع وذلك لفهم السلوك التنظيمي المتوقع من الأفراد [22] ، وفي مجال السلوك ، تلعب القيم دوراً هاماً في خلق وتكوين اتجاهات الفرد ، حيث تعتبر القيم هي المعايير التي يلجأ إليها الفرد في تقييمه للأشياء ، وعليه بنى المقيم الجاد أسباب نجاح ولاية عمر بن الخطاب والأسس التي ترتبت عليها عناصر الدولة في عهده إلى القيم بالإسلام فالقرآن والسنة الشريفة مليئة في الحث على القيم والالتزام بها فالآية الكريمة "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ...الآية " [23] والآية الكريمة " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ... الآية " [24] وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم " من غشنا فليس منا " والآية الكريمة في كراهية الغش " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " [25] وفي اتقان العمل ، الحديث الشريف " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ". وفي الترتيب القيمي والسلوكي ، الحديث الشريف " طوبى لمن طاب كسبه وصلحت سريرته وكرمت علانيته ، وعزل عن الناس شره ". وفي سلوك المحبة في الآية الكريمة " والله لا يحب الفساد " [26] وأيضاً " إن الله لا يحب المعتدين " [27] فجعل عاطفة الحب في سلوك القيم.
والتزام عمر بن الخطاب وجيله بهذه القيم أدى إلى رسوخ منظومة الدولة رغم حداثتها بل إزاحة حضارات عريقة اعتمدت على العنصر المادي دون القيمي ، فالالتزام بالقيم أقامت دولة عظيمة أنارت ما بين الشرق والغرب . ولقد كان أولى أولويات عمر أن ترسخ هذه القيم في المجتمعات الجديدة حتى تكون هي البوصلة التي تتحرك باتجاهها الشعوب لذلك سعى بأن يكون عبدالله بن مسعود بالبصرة وعمار بن ياسر في الكوفة وغيرهم في جميع عواصم الدولة لترسيخ هذه القيم ونشرها . يقول عمر " إن أخوف ما أتخوف عليكم بعدي أن يؤخذ الرجل منكم البرئ ، فيؤشر كما يؤشر الجزور ويشاط لحمه كما يُشاط لحمها ، ويقال عاصٍ وليس بعاصٍ ." [28] انظر إلى القيم كيف تكون في حسن الوفاء وعدم الغدر ، يقول عمر يوصي الجيش " ذُكر لي أن (مطرس) بلسان الفارسية تعني الأمان ، فإن قلتموها لمن لا يفقه لسانكم فهو آمن "[29]
 
 
 
 
ويشير العالم Mcmarry  إلى أثر القيم  في السلوك بالقول : " أن القيم تقوم بتحديد ما يعتقده الفرد صحيحاً وأخلاقياً ، وتعمل القيم كمعايير يستخدمها الفرد من أجل إرشاده في سلوكه اليومي وهذه المعايير أو المبادئ التي توفرها لنا القيم يمكن الاحتكام إليها في تقويم سلوكيات الفرد المختلفة ، كذلك تلعب القيم  دوراً في تحديد نوعية الأفراد الذين يمكن أن يتوافق الفرد معهم وإلى أسلوب اختيار الأكفأ  منهم . "
ولكي ترتقي أي منظومة فهناك مجموعة من  القيم يجب على الأفراد العاملين الاتصاف بها ، وهي قيم اجتماعية تشمل الأمانة والأخلاق والشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين ، وقيم تنظيمية تشمل الولاء والانتماء والكفاءة والفعالية ، وقيم مهنية تشمل المهارة والتعاون وكذلك هناك قيم شخصية مثل الخدمة والمساندة . لعل ما توصل إليه علماء الإدارة في القرآن العشرين كان نموذجاً حياً في زمان عمر فهناك زيادة على القيم الاجتماعية التي سبق أن ذكرنا فهناك الاقتناع والولاء والانتماء والكفاءة وسوف نتطرق لها في جنبات هذا البحث .
 
 
تكوين القيم :[30]
 
لعل السؤال المهم هو ، ما قوة هذه القيمة ؟ تعتبر قيم الأفراد متصلة بشكل قوي ومنسجمه مع الطبيعة النفسية والاجتماعية ، ويؤكد مندل وجوردان أن قوة القيمة لدى الانسان ومدى تعرضها للتغيير يتصلان بعلاقة الفرد بعائلته وثقافته الموروثة حيث توجد عدد من القواعد تشرح هذه العلاقة :
 
1.   القيم باقية وبشكل خاص في حالة تناسقها تاريخيا وأسريا وجماعيا وثقافيا . (قيم الإسلام متناسقة اجتماعياً وثقافياً)
2.   عندما يكون الفرد متصلا عاطفيا بموضوع ما فإنه سيكون من الصعب اقناعه بتغيير قيمه . (وهذا ما حدث بالتزام تلك المجموعة في عهد عمر بأخلاقيات العمل من النواحي السلوكية )
3.   الأفراد الذين يعيشون في منطقة معينة وخلال فترة زمنية معينة تكون قيمهم متشابهة . (تشابه أخلاق عمر مع رفقاءه على بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف ونظرائهم )
4.   الاختلاف في القيم يعود إلى اختلاف الفئة الاجتماعية والروابط العرقية .
5.   يسعى الفرد إلى تحقيق الانسجام والتناسق بين قيمه وقيم الجماعة التي ينتمي إليها .
ولعل هذه الصفات المهنية في علم الإدارة نراها واضحة في عمر والصحابة من حوله، علي ابن أبي طالب وعبدالرحمن ابن عوف وسعد ابن أبي وقاص بل امتدت إلى خارج هؤلاء الذين يعتبرون من أسرة الحكم إلى الولاة وأفراد الجيش فهناك تناسق وانسجام بين عمر بن الخطاب والصحابة من حوله في قيم الجماعة وعليه فهناك تناسقاً تاريخياً وأسرياً وجماعياً وثقافياً .
 
 
 
 
القيم وأخلاقيات العمل :
 
حسب الدراسات الحديثة في علم الإدارة فإن هناك علاقة وطيدة بين دراسة القيم في أي منظومة واخلاقيات العمل فيها ، فهناك بعض القيم التي تسعى المؤسسات الحديثة إلى وجودها لدى الافراد العاملين مثل قيم اجتماعية وقيم تنظيمية وقيم مهنية ، إذ أن الغالبية العظمى من المنظمات الحديثة ترغب في أن يتوفر لدى العاملين فيها حد أعلى من القيم المتعلقة بأخلاقيات العمل ، والحقيقة هناك مجموعة من العوامل التي تؤدي إلى تراجع القيم المتعلقة بأخلاقيات العمل في المنظمة منها : [31]
 
1.   السيطرة العشائرية والقرابة والولاءات العائلية والحزبية على العلاقات التنظيمية . (وهذا ما سعى فيه عمر أن لا يكون ، بل ولى من هو أقل عشيرة وصُحبه على من كان صحابياً وهذا ما سنذكره لاحقاً بل ولى أحد الموالي .
2.   وجود التمييز في المعاملة بين الموظفين . (وقد ذكرنا أسلوب إنصافه مع القبطي وهو من الشعوب المفتوحة على ابن الوالي )
3.   تعقد الاجراءات وكثرة القوانين والأنظمة والتعليمات المرتبطة بإنجاز المعاملات . ( لعله استحسن أن تكون الأمور بسيطة دون تعقيدات البيروقراطية في التعامل المباشر )
4.   عدم توفر القدوة الحسنة للموظفين داخل العمل وخارجه . ( سنذكر أمثلة في ذلك العهد )
5.   تردي الأحوال الاقتصادية في المجتمع ولدى الموظفين . (ساوى بينه وبين الفقراء في عام المجاعة )
6.   ضعف الهياكل التنظيمية وضعف القيادات الادارية بما في ذلك ضعف الرقابة والاجراءات التأديبية الرادعة . ( لعل الهياكل كانت ترقى في عهد عمر إلى أن تكون واضحة ومرتبطة بعضها في بعض ) .
7.   ضعف برامج التدريب والتأهيل المتعلقة بأخلاق العمل .
 
وعلى ضوء دراسة موضوع القيم ، يمكن أن نستخلص النقاط التالية :
 
1.   أن دراسة القيم تبدو أمراً مهماً في جميع ميادين الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأسس تنظيم الدولة .
2.   أن جميع التعريفات للقيم تشير إلى أنها أداة لدفع الفرد إلى اتباع  سلوك معين يعتمد على مدى الاعتقاد بما هو متبع في المجتمع كالعلاقات والاتجاهات والعادات والقيم ،،،،الخ .
3.   القيم ليست صفات طبيعية أو غيبية ، بل هي ظواهر اجتماعية لا تتصف بالثبات الدائم .
4.   تلعب القيم دورا أساسياً في النظام الاجتماعي من حيث وضع القوانين والأنظمة التي يجب أن يعترف بها المجتمع .
5.   القيم نسبية ، ولا يمكن أن تفهم إلا في المجال السلوكي ، وفي الاطار الثقافي الذي يعيش فيه الفرد .
6.   ان الانسان في الواقع هو الذي يحمل القيم ويخلعها على الأشياء .
7.   للدين دور فعال في بناء القيم لدى الأفراد.
 
مفهوم القيم في الإسلام :
 
لعلم قبل أن نتطرق إلى القيم في عهد عمر يجب أن نتطرق إلى المنبع الذي استساغ به عمر وأصحابه هذا السلوك وقول علي بن أبي طالب لعمر " لو رتعت لرتعت الرعية " .
يطلق مفهوم القيم في الإسلام على أصول المنظومة الفكرية والأخلاقية من مرجع الفضائل ومكارم الأخلاق  في أصل الدين الاسلامي والتي يهتدي بها العقل إلى الطريق السليم في التعامل الانساني والقلب إلى الاخلاص وعليه تنعكس على الأعمال فتصبح الأعمال تجليات القيم ونماذج حية في التعامل . يقول الله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"[32] والشنأن هو العداوة
 
التطبيق العملي لمفهوم القيم في عهد عمر :
 
تحدثنا في وصايا عمر عن حرصه الشديد على الرعية وتعليمها وحماية حقوقها ، وملاحقته من أجل ذلك عمالة من الولاة وقواد جيشه لتطبيق النظام الاجتماعي القائم على العدل والرحمة والمساواة والأمانة وحسن المعاملة يقول عمر للمغيرة بن شعبة " يا مغيرة ليأمنك الأبرار وليخفنك الفجار "[33].
ونخلص من دراسة هذا العهد إلى أن وصاياه متفقة مع كل ما هو إنساني نبيل صلح عليه أمر هذا العالم من قديم وحديث ، فوصية عمر تحمل أحد طابعين :  أما التحذير من شيء لما فيه من مكروه وفساد فتحض على نبذه ،  وأما الإقبال عليه لما فيه من صلاح فتحث على عمله وهذه أسس التطوير والتنمية في مؤسسات الدولة التي يفخر بها الغرب حالياً .
 
أوصى عمر بن الخطاب  أبا موسى الأشعري محذراً من الزيغ وهو الظلم فكتب له : " .......[34]  أما بعد فان أسعد الرعاة من سعدت به الرعية ، وأن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته , وإياك  أن تزيغ فتزيغ عمالك ، فيكون مثلك عند الله مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها تبتغي السمن وانما حتفها في سمنها والسلام " . فأراد بهذا أن يكون أبو موسى قدوة حسنة عن ولاة عليهم .
 
 
 
 
أنظر إلى وصية لسعد بن أبي وقاص :
 
( ....... وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاءً ، منها السر ومنها العلانية ، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء ، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه ، وبمحبة الناس  ، فلا تزهد في التحبب فان النبيين قد سألوا محبتهم ، وأن الله إذا أحب عبداً حببه ، وإذا أبغض عبداً بغضه ، فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس .[35] ) أراد بهذا عمر أن يخلق علاقة وثيقة بين الوالي وبين رعيته من خلال تثبيت القيم . يقول عمر في قوم ارتدوا من بكر بن وائل فقتلوا لأجل ذلك ، يقول عمر لأنس بن مالك : " لو كنتُ أخذتهم سلماً كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء " فقال أنس : يا أمير المؤمنين وما كان سبيلهم لو أخذتهم إلا القتل ، قومٌ ارتدوا عن الإسلام ، ولحقوا بالشرك . قال عمر : " كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الباب الذي خرجوا منه ، فإن فعلوا قبلت منهم ، وإن أبوا استودعهم السجن "[36]
 
 
ونستنتج من وصايا عمر  ما يلي :
 
أولا : أن وصايا عمر يلزمها طابع " الإمكان"  فهي في طاقة الموصي وليس فيها ما ينوء به أو يرهقه .
ثانيا : دلالتها على خبرة عمر بطبيعة النفس البشرية وحاجتها الدائمة إلى الإغفال عنها حتى لا تفسدها سلطة ، أو تبطرها نعمة ، أو تنحرف بها ثقة مفرطة إلى استبداد ، والنقيض من ذلك فكما حذر عمر  الانسان المسئول من الثقة المفرطة في نفسه ومن اعجابه في نفسه ، كذلك حذره من طرح الثقة في غير أهلها ممن يولى .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
أدرك عمر حقيقة خالدة وبسيطة في الوقت ذاته وهي أنه جعل من حياته الخاصة والعامة نموذجاً وصورة حية لعقيدته التي يؤمن بها والتي يدعو إليها ، فأدرك منذ الوهلة الأولى خطورة عدم إظهار القدوة الطيبة من ولي الأمر وهي ما أشارت إليه دراسة القيم وأخلاقيات العمل " والقدوة الحسنة هي عبارة عن اتجاه منبثق من قيمه دون تصنع ، ولقد أوضح عمر المعنى الذي أشرنا إليه وأعلنه للملأ في أكثر من مناسبة ، ومن أوضحها خطابه في فتح القادسية ، والذي رواه الطبري حيث يقول : " إني حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض ، فإذا عجز ذلك عنا تأسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف ، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم ، ولست معلمكم إلا بالعمل  ، إني والله ما أنا بملك فأستعبدكم ، وإنما أنا عبدالله عُرض علي الأمانة " وهو بذلك عمل توازن بين ما يحتاجه المجتمع وما هو قادم عليه ، فلا يكون بعيداً عنهم حتى في المستوى المعيشي وأنه حريص في التطبيق العملي للمجتمع .
وهو بذلك حافظ  على الخصائص الذاتية والقيم المستوحاة من الإسلام ولم ينغمس في شهوات الحياة المقبلة من الشرق والغرب فما العاصم من هذا الانحراف وهو يرى كنوز كسرى وخزائن قيصر توشك أن تكون غنيمة خالصة لهؤلاء الحفاة العراة ؟  هل يجدي في ذلك العظات والخطب أم يكون  المانع من ذلك التمسك بالقيم وإظهارها عملياً من خلال العمل ، وقد يكون إدراك الحقائق والقيم سهلا ويسيرا ، ولكن تقمصها في الحياة الشخصية ليس بتلك السهولة وأن المرء ليعجب أن يموت عمر مديناً لبيت المال رغم هذه الأموال الطائلة التي يوزعها على رعاياه ويطلب من ولده أن يسدد ما عليه لبيت المال .
 
قرارات الدولة والدور القيمي فيها  :
 
لقد استطاع الفاروق عمر أن يوجد أولويات الإدارة ويجعلها ركيزة من الركائز المهمة للدولة من خلال غرس القيم ومراقبتها بصورة مباشرة ففي فكر عمر أن يجعل ركيزة الدولة في جميع ولاياتها خاضعة للقرارات المركزية في عاصمة الدولة كهيكل تنظيمي وأسلوب مراقبة مركزية ومحاسبة من خلاله على التقصير في أداء المهام العامة للدولة حسب التوصيف الإداري فالتخلخل في الدولة لا يتم إلا بضعف الهياكل التنظيمية وضعف القيادات الإدارية بما في ذلك ضعف الرقابة والإجراءات التأديبية الرادعة ، فالاحترافية التي نالها عمر بن الخطاب من دول ذات حضارات مثل الروم وفارس كالتدوين والسجلات وغيرها من حيث أصول الحكم والإدارة سببه القدرة على متابعة أسس تكوين القرار في تلك الدول ومغزاه وعدم ترك الولاة يتصرفون بغير صلاحيات محددة  تنظم حقوق الناس ، مما جعل هذه الدول المتحضرة تنبهر بهذه الشخصية الفذة  حتى أن البطارقة والدهايقه وأقطاب الحكم (في الدولتين) أعانوه في المشورة  ودعم الحكم القادم لهم من جزيرة العرب لما رأوا القدرة في انصاف طبقات المجتمع دون تحيز فأشار كثير منهم على عمر بن الخطاب في أسلوب التعامل مع الدول المفتوحة واسلوب المعالجات لمشاكل الدولة  الحديثة العهد ،  وكيفية التعرف على السلوكيات المقبولة والمبادئ الملزمة ، ان السلوكيات المقبولة والمبادئ الملزمة تشكل القواعد التنظيمية لأي دولة وتعد الأسس التي تقوم بناء الدولة.
 
 
 
 
 
 
 
السلوكيات والمبادئ الادارية :
 
ولقد رأى عمر أن يجعل السلوكيات المقبولة من مجتمعات الدول المفتوحة حديثا من خلال نشر المبادئ العامة للدولة هي مجموعة من التصرفات الودية التي تتعامل الدولة بها مع هذه المجتمعات دون قهر عقائدي أو سلب حقوق ، وهذا ما يتوافق مع مبادئ الإسلام وهي تعتبر أسلوب تثقيفي للمجتمع .
اما المبادئ الملزمة فهي مجموعة المتطلبات التي تفرضها الدولة على جميع مواطنيها من سياسات واجراءات وأهداف ، وهذا الاسلوب الاداري الفريد والغريب على تلك المجتمعات لم يكن سهلا في دولة مترامية الأطراف ومتعددة الثقافات وعهداً جديداً من الحكم لم يتعود عليه سكان هذه الدول سواء من عرب أو أبناء الدول المفتوحة إلا بتكريس تلك المبادئ .
 
 فهذه الخبرات في التطبيق لم تصل إلى عمر بن الخطاب دون أن يكون له دراية في الإدارة العامة للدولة تلقاها من السيرة النبوية وحثها في تطبيق الالتزام واحترامية الإنسان من خلال الممارسات اليومية للنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا سابقاً وملازمة عمر له في أسلوب المعالجات إدارة الأمة  والأحاديث التي رويت عن الرسول (ص) توازن بين القدرة والامكان  " أد الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " والمعاهد هو الذمي أو المستأمن أو ابن البلاد المفتوحة . كذلك حديث  " الا من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما ، كذلك الموازنة بين الغني والفقير حديث " لا يؤمن بالله من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم " تطبيق مثالي للالتزام وعدم الغدر حتى مع العدو ومع القدرة على التسامح وبذل المعروف ، كما لازم الخليفة أبو بكر الصديق بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فترة حكمه ، كما أعانوه اخوانه من الصحابة كمجلس حكم وعلى رأسهم الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم وابو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم .
 ولعل من الإنصاف أن نقول أن الامام علي رضي الله عنه حكم في عهد عمر أكثر مما حكم في خلافته ، فقد تصدى لكثير من الأمور وبموافقة عمر وهذا توثيق للالتزام الخلقي .
 
إن كل من قرأ التاريخ لن يجد قيام دولة وانتشارها بهذه الودية مع شعوب غير متجانسه وأقليات بعيدة المزاج (عرب – فرس – روم – أقباط) في فترة زمنية قصيرة  ، فالعامل المشترك الوحيد لهذه الشعوب ما وجدوا من ودية في التعامل وحماية لحقوقهم واحترام لمشاعرهم سواءً بسواء واحتضان الدولة لهم دون إكراه .
 
  
 
 
 
 
 
 
 
الإدارة ومحورها في نظر عمر :
 
إن العمليات الإدارية في إدارة الدول حسب التعريفات الحديثة هي أنماط من السلوك يمارسها القائمون بالإدارة في جميع المنظمات من أجل استقرار الدولة وبالتالي زيادة مصادر الدخل وتقنين الصرف المدروس وتوزيع القدرات المالية حسب حاجة الولايات في سيادة عامة للقانون مع الموازنة بين حق الدولة وحق المواطن ، وبالنظر إلى ما ساد في عهد الخليفة الفاروق ، فهناك سلوك إداري فريد ينظم العلاقة بين الحقوق والواجبات لرعاية الدولة أقره الأغلبية من الصحابة في مجلس حكمة إن جاز التعبير بالتوافق مع الخليفة عمر .
فهناك اجتهاد بالأموال العامة أقره عمر من  ناحية موارد الدول من ناحية مصادر الدخل وحجم الموارد في دولة فهناك اراضي زراعية شاسعة وتجارة متبادلة بين المدن وخارج الدولة . كتب عمر إلى عمرو بن العاص واليه على مصر لما أصاب المدينة من قحط : " من عبدالله عمر أمير المؤمنين إلى العاصِ بن العاص : سلام ، أما بعد ، فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي ، فيا غوثاء ثم يا غوثاء " فكتب إليه عمرو بن العاص " لعبد الله عُمر أمير المؤمنين ، من عمرو بن العاص ، أما بعد ، فيا لبيك ثم يا لبيك ! قد بعثت إليك بعيراً أولها عندك وآخرها عندي والسلام وعليكم ورحمه الله " فبعث إليه بعير عظيمه فكان أولها بالمدينة وآخرها بمصر ، يتبع بعضها بعضاً ، فلما قدمت على عمر وسع على الناس ودفع إلى أهل كل بيت بالمدينة وما حولها بعيراً بما عليه من الطعام وبعث عبدالرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، يقسمونها على الناس فدفعوا إلى أهل كل بيت بعيراً بما عليه من الطعام "[37]
وهناك الفيء وهو ما يأخذ من العدو صلحاً بلا حرب ولا قتال وهو يعتبر مصدر دخل للدولة وهناك بدل التجنيد لغير المسلمين أو الجزية وهي تسقط في حال رغبتهم في المشاركة ومثال ذلك مشاركة أبوزيد الطائي النصراني في معارك العراق سقطت عنه الجزية أما الرواتب والمصروفات العمومية فقد رأى عمر في أول الوقت أفضلية السابقين بالإسلام وبعد ذلك تغير القرار و رأى أن توزع كل واجتهاده وبذله ولم يفكر أن يجعل الذين يستحقون العطاء من بيت المال هم العرب في الجزيرة العربية بل العطاء حق عام حسب رؤى عمر ، وقد زاد عمر في مستويات الصرف لتشمل المحتاجين من أهل الذمة كما في قصة اليهودي ، وكما فرض للأعاجم ففي فتوح البلدان أن عمر خصص إلى نهر الملك ولابن النخير جان والهرمزان والجفينة العبادي لكل واحد ألف ويقال أنه فضل الهرمزان ففرض له ألفين.
ولقد استخدم عمر بهذا الاسلوب إلى خلق حوافز تشجيعية تدفع إلى الولاء للدولة بحسب ما ذكرنا في نظرية القيم ، نرى هذا واضحا في قصة زهرة الذي خاطر بنفسه في الحرب وعند الانتصار والفوز تردد سعد بن أبي وقاص في أن يدفع إليه كاملا لما رأى ضخامة المبالغ المستحقة يقول عمر اتعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بمثل ما صلى به ، تكسر قرنه ، وتفسد قلبه ؟ أمض إليه سلبه (عطاءه) وفضله على أصحابه عند العطاء بخمسمائة ! " ما أعظم أن يقدر القائد رعيته وبلاءهم وتشجيع النوابغ منهم .
إن أسلوب عمر في توزيع الموارد على مواطنيه قد أدى إلى ظهور طبقة اجتماعية من الأغنياء وقد خاف بعض الناس من ذلك فنبهوا عمر على ذلك ورد عليهم عمر برؤية مستقبلية جميله بها مواعظ قد تنم عن احتياطي الاجيال كما نسميه  في عصرنا الحديث ومن ذلك ما ورد في فتوح البلدان ورواه ابن سعد أن خالد بن عرفطه العذري قدم على عمر بالمدينة ، فسأله الخليفة بما وراءه فقال له خالد : يا أمير المؤمنين تركت الناس يسألون أن يزيد في عمرك من أعمارهم ما وطيء أحد القادسية إلا ألحق في مآبه (يعني عطاءه) وجرا يبين في كل شهر ذكرا كان أم أنثى (يعني المواليد حديثي الولادة الذي فرض لهم عمر من العطاء) وما يبلغ لنا ذكر إلا ألحق على خمسمائة أو ستمائة أنه ينفقه فيما ينبغي وفيما لا ينبغي !!" فماذا كان رد الخليفة ؟ قال عمر الله المستعان إنما هو حقهم أعطوه ، وأنا أسعد بأدائه إليهم ، منهم بأخذه ، فلا تحمدني عليه ، فإنه لو كان من مال الخطاب ما أعطيتموه ، ولكني قد علمت أن فيه فضلاً ، ولا ينبغي أن أحبسه عنهم ، فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء ابتاع منه غنما ، فجعله بسوادهم (يعني يشتري غنما للتجارة والربح) ابتاع الراس والرأسين فجعله فيها ، فأنى  ويحك  يا خالد بن عرفطه أخاف عليكم أن يليكم بعدي ولاة لا يعدون العطاء في الادخار " فان بقي أحد منهم أو أحد من ولده كان لهم شيء من المال قد اعتقدوه  فيتكئون عليه ، فإن نصيحتي لك وانت عندي جالس كنصيحتي لمن هو بأقصى ثغر من ثغور المسلمين من مات غاشاً لرعيته لم يرح رائحة الجنة " وهذه من أسس القيم في الإسلام . عظيم أن يوجه القائد شعبه إلى التنمية وتطوير الذات حتى تكون لهم مصدراً في الدخل .
بل يسجل التاريخ لعمر ، أنه أمم أرضا لصالح الدولة أو لصالح الطبقة الفقيرة والموارد العامة ، إذا جاز لنا استعمال لغة العصر ولكن ترك بعض الأراضي للمنافع العامة وخصوصاً للطبقة الفقيرة ، وهي المعروفة  بأرض الحمى ، وهي أرض منع منها التملك ، والاستعمال الخاص وخصصت  لمواشي الفقراء فقد جاء بالخراج لأبى يوسف " أن اسلم (مولى عمر) قال رأيت عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هنيئاً على الصدقة فقال له يا هنيء ضم جناحك عن الناس ، واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة ، وادخل رب الغُنيمة (أي الفقير صاحب الماعز والماعزين) وإياك ونعم (يعني مواشي) بن عفان يقصد عثمان وهو غني وابن عوف يقصد عبدالرحمن وهو كذلك ، فانهما ان تهلك ما شيتهما يرجعان إلى زرع ونخل ، وان صاحب الغُنيمة ان تهلك ماشيته يأتني ببنيه فيقول يا أمير المؤمنين ! أفتاركهُ أنا لا أباً لك ؟ وهذا يعني هل إن جاءني هذا فسوف لا أتركه ؟
انظر كذلك كيف يحافظ على ضمان المعيشة الكريمة للفقير  ، قال محمد بن زياد : كان جدي مولى لعثمان بن مظعون وكان يلي لعثمان فيها بقل وقثاء ، قال فربما أتاني عمر بن الخطاب نصف النهار واضعا ثوبه  يتعاهد الحمى أن لا يعضد شجرة ولا يخبط  (اي لا تقطع الأشجار من عروقها) فيجلس إلي فيحدثني فقال لي يوما أراك لا تبرح مما ها هنا ؟
فقلت أجل ، فقال أني استعملك على ما ها هنا فمن رأيته يعضد شجرة أو يخبط ، فخذ فأسته وحبله ! [38] وهذا دليل المحافظة على البيئة وهو ما يطبق في الغرب في المحافظة على الغابات والبيئة البرية .
 
 
 
 
 
 
 
الأساليب المختلفة للإدارة وفق المفاهيم الحديثة :
 
يصف أحد التعريفات الحديثة للإدارة بأنها " إنجاز الأعمال عن طريق الآخرين " وفي تعريف آخر أكثر دقة " الإدارة أداء شيء مخطط له في مجال معين عن طريق الاستفادة من الموارد المتاحة " ، ولكن السؤال ما الذي يجعل بعض الأشخاص المجدين يواجهون المتاعب في إدارة مسئوليتهم بشكل جيد ؟ فهناك مفاهيم إدارية تبرز بين حين وآخر ، ألم تسمع عن دوائر الخطط الاستراتيجية والجودة والحوكمة .
هل سبق لك أن سمعت أيا من  العبارات التالية من بعض المسئولين :
 
 
ü   ليست لدينا السلطة اللازمة لاتخاذ هذا القرار .
ü   فلان هو المسئول  عن هذه الإدارة  وتصحيح  الأوضاع مسئوليته وهذه ليست مسئوليتنا نحن .
ü   لماذا يصرون على سماع آرائنا طالما انهم لا يطبقون أيا منها أبداً؟
ü   إذا كان المسئول العام لا يهتم بالموضوع فهل أهتم أنا ؟
وهذا تساؤلات التواهن وعدم المواجهة والمبادرة لأي جديد قد يطرأ .
 
ولحل هذه التساؤلات التي تخطر في ذهن بعض  مسئولين  الدولة قد تجاوزها عمر بأسلوب  إداري يعالج ما يخالج الناس من همومهم اليومية من خلال إعطاء الصلاحيات وبث جهات المراقبة للمسئولين والاتصال المباشر مع الناس ، فجعل دار الامارة مفتوحة لتلقي الشكاوي المباشرة كما أنه أقر مصفوفة إدارية للصلاحيات ،وقرر أن لا يتخاذلون عنها ، فالجبن عن مواجهة المسئولية كالتعدي على الصلاحيات كلهما يدعو للتراجع.
 
 
الموارد البشرية وتعيين الأكفاء:
 
إن عملية تعيين مسئولين عموميين أكفّاء والاحتفاظ بهم فترات طويلة تكون بمثابة القلب النابض في أي منظومة ،  ففي عالم الإدارة لدولة حديثة تصبح هذا المهمة أكثر تعقيداً وأهمية حيث لا توجد أي مرجعية إدارية سابقة وكذلك وضع هيكل دولة ناشئة بصلاحيتها وعناصرها البشرية (أنظر كيف يفكر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه).
 
 
 
 
 
فبيئة الدولة بتغير سريع بشرياً وامتداد جديد جغرافياً من فتوحات في عمق دول ذات حضارات ، فلا بد إذن للمسئولين الجدد أن يكونوا بمستوى القدرة والمرونة بحيث يمكن للملاءمة أن يكون لها دور مع هذه المتغيرات بما في ذلك ما يستجد من قوانين وديموجرافيات واستراتيجيات ، فيعد التخطيط وتطوير الاستراتيجيات بمثابة البنود الأولى على جدول أعمال الخليفة في تطبيق مشروع هذه الدولة ، فما يواجه الخليفة عمر من صعوبة هي  أن يجد سياسة عامة موحدة وولاة محترفين تتناسب قدرتهم مع بيئة الدولة .
 
ولتنظيم هذا فهي بحاجة أولاً إلى تقسيم الدولة ولايات إدارية كبيرة ، *** ليسهل الاشراف على سياستها ، فكان هذا سبباً رئيساً في تطوير نظام هياكل الولايات ووضع نظام لاختيار رئيس الولاية على أن يكون قادراً على الإدارة ومن المرجحات لهذه المهمة رجاحة العقل والاحترافية والقوة ومواجهة المشاكل والحكمة ، وكان عمر حين يختار لتحقيق هذا الهدف في تعيينه لولاته يركز على الخصائص والطباع والعادات والاعراف في شخص الوالي ، فلقد عرف عنه أنه كان لا يعين رجل البادية على المدن رغم صفاته ، وكذلك العكس ، وهذه نظرة اجتماعية سلوكية في آن واحد في اختيار ولاته فلكل من أهل البادية والحاضرة طبائع وصفات وأخلاق وعادات وأعراف مختلفة ، فمن الطبيعي أن يكون الوالي عارفاً بنفسية رعيته وليس من العدل أن يتولى أمرها رجل يجهل صفاتها وسلوكياتها  الاجتماعية والاقتصادية وحتى النفسية ،  فقد يرى هذا الوالي العرف نكراً ويرى الطبيعي غريبا ، فيؤدي ذلك إلى غير ما تتوخاه الدولة من أهداف تسعى إلى تحقيقها [39].
 
فأسلوب عمر بن الخطاب وخطبه تبين أن الحلم والشفقة والعلم في الرعية من أولوياته في اختياراته فيقول اعلموا أنه لا حلم أحب إلى الله تعالى ولا أعم للرعية من حلم إمام ورفقه ، وأنه ليس ابغض إلى الله ولا أعم من جهل امام وفرقه  ، واعلموا أنه من يأخذ بالعافيــــة فيمن بين ظهرانيه يرزق العافية ممن هو دونه [40]. وبذلك وضع الوالي بصفات الحليم القادر المتفهم .
وكذلك يقول  : لوددت أني وجدت رجلاً قوياً أميناً مسلماً استعمله عليهم ، فقال له رجل أنا والله أدلك عليه ، عبدالله بن عمر ، فقال عمر : قاتلك الله والله ما أردت الله بهذا [41]  ، يعني بذلك أردت المحابة لي في ولدي عبدالله . ولكن عمر في هذه المقولة طرح الصفات التي يريد . وفي الذكاء يقول عمر عن كيفية تفكير ولاته " ليس العاقل الذي يحتال للأمر إذا وقع فيه ولكنه الذي يحتال لئلا يقع "[42]
 
 
 
 
 
إن مسوغات التعيين في إدارات الموارد البشرية تبدأ أولاً بإجراء تصور عام لاحتياجات الدولة من العمال والولاة وهذا يمكن أن يكون معناه ، إما تقدير المتطلبات الحالية من نوع الولاة والمسئولين وإما وضع تصور مستقبلي للمتطلبات المستقبلية  إذا كانت هناك تغييرات متوقعة ، وفي كلا الموقفين هناك العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى  الاجابة عنها وفهمها بشكل تام قبل إعطاء نتيجة لهذا التحليل .
 
1 -  ما الرؤية الاستراتيجية التي تريد لشكل الدولة ؟
2 – ما الأهداف طويلة الأجل والأهداف قصيرة الأجل ؟
3 – هل هناك تفاوت كبير في ثقافة الولايات تحتاج على أثرها التغييرات في نوعية الولاة بناء على هذه الثقافات .
4 – إذا كان هناك حاجة إلى تغييرات في مسئوليات وصلاحيات الولاة ، فما نوعية المقاومة التي يمكن توقعها إزاء هذه التغييرات ! ؟
 
فمجرد الاجابة عن هذه الاسئلة ، يمكن إكمال عملية تقدير احتياجات الدولة لمدراءها ، ولقد سار عمر بن الخطاب في اختيار الولاة بأسلوب إداري فكان لا يولي إلا الكفاءة والأمناء والأصلح في القدرة على القيام بالأعمال  ، ويتحرى المفاضلة والمناسبة لنوع الولاية  فكان يقول من ولي أمر من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما ، فقد خان الله ورسوله والمسلمين [43] ، وعليه فإن هناك سلسلة من الاجراءات وضعها عمر لهذا المنصب أنظر إلى القواعد المهمة التي اختارها عمر للتعيين والتي توافق إدارة الدول الحديثة فقد اختار القوة والأمانة والعلم وتفضيل الأقوى من المرشحين للولاية وأن يكون بصيرا بأعمال الولاية ، وله  باع في تصريف الأعمال اليومية وأن يكون ليّناً من غير ضعف ، ولإثبات التفرغ فقد منعهم من مزاولة أعمالهم الخاصة غير ما انيطت بهم واحصاء ثرواتهم  قبل التعيين مع احترامهم بعد عزلهم دون إذلال إلا بذنب .
فلم يكن عمر يكتفي بحسن اختيار الولاة ، وانما كان يحدد لهم أساليب العمل ، والقواعد التي يسيرون عليها . لتكون أساسا لمحاسبتهم فيما بعد ، وكانت هذه القواعد تحدد مباشرة مع الوالي أو من خلال الصورة الجماعية في مؤتمر الولاة التي كان يعقدها عمر وأشهرها في مواسم الحج ، أما الشروط الخاصة فكان عمر يضعها من خلال كتاب الولاية ومن أشراطه التي أشهد عليها طائفة من المهاجرين والأنصار بأن لا يظلم الوالي أحداً في جسده ولا في ماله ، وأن لا يستغل منصبه لفائدة أو مصلحة له أو لمن يلوذ به وهي شروط في غاية الأهمية للمحافظة على كرامة الإنسان وكذلك التحكم في بواعث النفس ، أما الشروط العامة فمن أوضحها خطبه في مؤتمرات الحج ، ومن أشهرها :" ألا واني لم ابعثكم أمراء ولا جبارين ، ولكن بعثتكم أئمة الهدى يهتدي بكم (بمعنى القدوة الحسنة) ، فأدروا عن المسلمين حقوقهم ولا تضربوهم  فتذلوهم ولا تخمدوهم فتفتنوهم ولا تغلقوا الأبواب دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم ، ولا تأثروا عليهم فتظلموهم ، ولا تجهلوا عليهم " [44]. يقول لأبي موسى الأشعري " يا أبا موسى إياك والسوط والعصا ، اجتنبهما حتي يقال لين في غير ضعف [ ولا تكن واهناً] واستعملهما حتى يقال شديد في غير عنف "[45]
بل امتدت تعليمات عمر إلى أبعد من ذلك ما نسميه اليوم بالشئون العامة في الولاية وذلك أنه إذا بلغه أن عاملاً لا يعود مريضا ولا يدخل عليه الضعيف نزعة من الولاية وكتب بهذا الخصوص مرة إلى سعد بن أبي وقاص حاكم العراق : (....عد مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح بابك وباشر أمرهم بنفسك فإنما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم ) [46].
لو بقيت تلك التوجيهات بلا متابعة   لما خرجت أن تكون مواعظ مثالية أو خطب منبرية لا قيمة لها في الواقع العملي ، بل أنه اشتد في مراقبة تطبيق هذه التوصيات لدرجة أن بعض الولاة كان يظن أن أقرب الناس إليه هم عيون لعمر ، فقد قام بمحاسبة سعد بن أبي وقاص كما ذكرنا وكذلك حقق مع أبي موسى الأشعري ، كما حقق مع عمرو بن العاص .
وقد عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة ولعله رأى أن احترام شخص سعد يقضي بإبعاده عن ولاية الكوفة الذين يعيبونه في صلاته مع أن سعداً كان أشبه الناس صلاة برسول الله (ص) ويدّعون عليه أنه غافل عن أمورهم فعزله احتراما له وهو يعلم أنه غير ذلك ، وأن يتولى الكوفة رجل قادر  على تفهم أهلها ونوع التعامل معهم ، ومع اقتناع خيار أهل الكوفة وعقلائها بسعد وامتداحهم له ، فقد وقعت بعض الشكاوى ضده من قبل العامة فتم عزله واصدر عمر قراراً بتعيين عمار بن ياسر ، وقد كان لعمار خبرة في إدارة ولاية الكوفة ، فقد كان سعد يستعين به في إدارة الولاية قبل عزله وكانت ولاية عمار تختلف عن ولاية سعد خصوصاً بعد أن رأى عمر توزيع مسئوليات الإمارة ، فقد جعل عمر مع عمار أناسا أخرين يشتركون معه في المسئولية ويتقاسمون المهام ، فكان عمار على الصلاة وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن حنيف على مسح الأراضي  وحصاد الأرض الزراعية وهذه مرحلة جديدة في التنظيم الإداري وتوزيع المهام .
 
ان أسلوب القيادة في شخصية الفاروق لم تكن عاجزة عن وضع قواعد أصلية في تنظيم الدولة وترتيب شئونها وتحديد سلطاتها فإذا كانت أوربا اكتشفت هذه النظرية في العصر الحديث واعتبرتها فتحاً جديداً في تنظيم الدولة  وفي رعاية حقوق المواطنين ، فإنها كانت بصورة عملية في عهد عمر بن الخطاب  قد صاغ لها القوانين ورسم لها الخطط والرؤى الواضحة دون عجز أو تقصير .
 
وكما أن التقصير من الوالي يضر في شئون الولاية كذلك التفوق العقلي والذكاء الشديد للوالي مضراً في حقوق الناس فقد عزل عمر بن الخطاب زياد عن ولاية البصرة فقال له زياد أمن ريبه يا أمير المؤمنين  فقال لا ولكن بك رجاحة عقل لا يتحمله الناس فتحملهم على فتنة [47]. فالتفوق قد يكون مضراً للعامة كالتقصير في المهام .
 
 
 
 
 
 
 
 
 
السلوك التنظيمي في منظمات الأعمال:
 
نظرية التعليم المعرفي :
 
إن جوهر النظرية المعرفية يتمثل في أن الفرد لديه قدرات كثيرة لفهم طبيعة العالم من حوله ، ولكي يظهر الفرد هذه القدرات لابد من توفر الدافعية له ، وعلى الرغم من أن البيئة تؤثر في السلوك إلا أن الفرد له تأثير واضح في عملية تعلمه ، بمعنى أن التعليم في النظرية المعرفية هو نتيجة لمحاولة الفرد الجادة لفهم العالم من حوله من خلال استخدام استراتيجية التفكير ، فالتعليم لا يحدث دائما نتيجة للتجارب المتكررة أو بتأثير من العوامل الخارجية فحسب ، بل ان هناك جزءا كبيرا مما يتعلمه الفرد يحدث نتيجة تفكيره وتأمله بالمشاكل التي تواجهه ومحاولته السيطرة عليها عن طريق ممارسة أنشطة عقلية تهدف إلى الوصول لحل ابتداءً من الحصول على المعلومات وتحليلها وتقييمها ثم إيجاد الحل واتخاذ القرار المناسب .
 
ويرى أصحاب هذه النظرية أن ثمة خطوة بين الموضوع المثير والاستجابة وهي النشاط الفكري (Mental Activity) كما هو موضح في الشكل التالي :


 
 
 
وبناء عليه فان النظرية المعرفية في التعلم ترى أن الناس يتمتعون بالقدرة  والمبادرة والبحث عن المعلومات بهدف التعلم ، ويمكن للإدارة أن تستفيد من هذه النظرية في تعليم المرؤوسين في مجال التدريب والتطوير الاداري  بهدف إحداث السلوك التنظيمي  المرغوب فيه .
 
ولنتطرق إلى نظرية التعلم المعرفي في عهد عمر فإنها اعتمدت على الدافعية وتأثير البيئة والخبرة لفهم العالم من حولهم يكمن في محاولة عمر وقبله أبو بكر رضي الله عنهم فهم الأحداث السابقة ولقد صور هذه الحالة ميمون بن مهران بقوله " كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى ، وإن وجد فيه ما يقضي به قضى به ، وإذا أعياه ذلك ولم يجد جوابا سأل هل علمتم ان رسول الله (ص) قضى فيه بقضاء ؟  فإن لم يجد جمع رؤساء الناس فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به ، وهكذا كانت مشاركة أصحاب الرأي والخبرة أمراً مفروضاً وقد روي عن الحسن البصري أنه بينما كان عمر يجول في سكك المدينة إذ بادرت له هذه الآية في ذهنه "  والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا " فحدث نفسه قائلا لعلي أوذي الناس فانطلق إلى أبي بن كعب وقرأ عليه الآية ، وطلب تفسيرها خشية أن يكون ممن تنطبق عليهم الآية ، فقال له أبي بن كعب لا تستطيع إدارة الحكم إلا أن تعاصر رعيتك فتأمر وتنهي " .
كذلك هناك دافعية غير مسبوقة وهي نشر هذا الفكر والدفاع عنه ، وهي تطبيق للحديث الشريف " من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " .
 
ومن المفيد أن نعيد اختلاف الرؤى بين عمر وبعض كبار الصحابة حول قسمة أرض العراق والشام وكان عمر من رأى في مستقبل الدولة واستقرار مواردها في بيت المال من فائدة أرجح من رأى بعض الصحابة في توزيع الأراضي على المقاتلين كما أسلفنا إلا أنه لم يسفه رأيهم بل أعطاه من الاحترام والتقدير .
ان الدول المتقدمة قد وجدت من المعارضة خير وسيلة لمراقبة انحراف السلطة، فأدرجت ذلك في صلب دساتيرها وكفلت حرية الرأي ووسائل التعبير وبهذا وُجد نظام الأحزاب المتعددة ، ولكن بالمقابل هناك دول ديمقراطية لم تأخذ بنظام تعدد الأحزاب واستعاضت عنه بنظام النقد والنقد الذاتي .
ولا شك أن النظام الإسلامي على الأقل في ذلك العهد لا يعرف ولا يستسيغ نظام أحزاب ، سواء تعددت أو لم تتعدد .
فالخلاف بين المسلمين على الأقل في ذلك العهد – لم يكن يتعد الخلاف حول الوسائل ولكنه لم يمتد إلى الغايات أو الفلسفة العامة للحكم ، وبالنظر إلى الاسلوب الذي اتبع في عهد عمر كان اسلوب  النقد والنقد الذاتي بالوسائل المتاحة في ذلك العهد ، ولقد كان عمر يشجع الناس على أن ينتقدوه وكان يرى أنه واجب لهم ، وكان لا يفتأ أن يذَّكر الناس بهذا الحق ، ويجعله مكملاً لأمانة الحكم ، ومن ذلك قوله في أحد خطبه أن الله عز وجل ولآني أمركم ، وقد علمتُ أنفع ما بحضرتكم لكم وأني اسأل الله  أن يعينني عليه ، وأن يلهمني العدل في قسمتكم كالذي أمر به ، وأني عبد ضعيف إلا ما أعان الله عز وجل فأيما رجل كانت له حاجة أو ظلم مظلمة أو عتب علينا في خُلق فليؤديني فإنما أنا رجل منكم ..."  ومما يدخل في نطاق النقد غير المباشر حق الرجوع عن القرار ، فقد يتصرف بناءً على رأي معين ، ويغيب عنه رأي آخر يكون أولى بالاتباع ، فيتقدم له صاحب الرأي المضاد فيعدل عن رأيه بعد اقتناع ، وما نشك في أن عمر كان يقوم بهذه المراجعات وهو مدرك أثرها في الكشف عن جوانب الحقيقة ويمكن الحكم عليه من أكثر من زاوية ، ورجل كعمر راجع رسول الله (ص) في قضايا كحجاب المرأة وتحريم الخمر لما يرى من مضار ذلك في حق المجتمع رغم تقديره للمنزلة العالية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنه يرى أن المرحلة الزمنية قد حانت في تطوير السلوك المجتمعي . حتى نزلت الآيات بذلك وراجع كذلك الخليفة أبو بكر في أمر الردة وكيفية التصرف معها وكان له رأي مخالف لرأي الخليفة ولكنه لما تفحص الأمر وجد أن رأي الخليفة أبو بكر أرجح فرجع عن رأيه ، رجل هذا شأنه قبل أن يتحمل مسئولية الحكم ، لا شك يقدر وجهات النظر المختلفة قبل أن يقدم على أمر من الأمور .
وهذا دليل السلوك التنظيمي في أسس الدولة ، وحسب ما ذكرنا سابقاً لقد وصلت المراجعة حد العنف بين عمر بن الخطاب وبين عمرو بن العاص بخصوص خراج مصر  فعمر يرى أن من حق الدولة أن تتقاسم الموارد وعمرو بن العاص يرى أن تطوير الولاية في مواردها أولى من توريد المال إلى عاصمة الخلافة ويعطيها قوة أكثر وكان عمرو بن العاص والي مصر ، فكان عمرو ينفق من خراج مصر في حفر الخلجان وإقامة الجسور وبناء القناطر وما زاد يبعثه إلى أمير المؤمنين ودار حوار  يدل على رأيين كلاهما صائب فقد كتب عمر بن الخطاب إلى واليه عمرو بن العاص في مصر " إني فكرت في أمرك والذي أنت عليه فإذا ارضك واسعة عريضة رفيعة  .
وقد أعطى الله أهلها عددا وجلداً وقوة في البر والبحر وأنها قد عالجها الفراعنة (يعني في إدارتها) وعملوا فيها عملاً محكماً مع شدة عتوهم ، فعجبت من ذلك وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك من غير قحوط ولا جدب ، ولقد اكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج وظننت أنه سيأتينا على غير ذلك ، فإذا انت تأتيني بمعاريض تبعث بها لا توافق الذي في نفسي وكان الرد من عمرو بن العاص يفند فيه رأيه أمام الخليفة بقوله فكتب إليه عمرو بن العاص " أما بعد فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج ، ويزعم أني أعنُد عن الحق وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم ، ولكن أهل الأرض استنظروني أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيراً من أن يُخرق بهم فنصير إلى ما لا غنى لهم عنه والسلام "[48] فلما وصلت خيرات مصر إلى المدينة كتب عمر إلى عمرو بن العاص أن يقدم عليه هو وجماعة من أهل مصر معه فقدموا عليه فقال عمر : يا عمرو إن الله قد فتح على المسلمين مصر وهي كثيرة الخير والطعام وقد ألقي في روعي لما أحببت من الرفق بأهل الحرمين والتوسعة عليهم حين فتح الله عليهم مصر وجعلها قوةً لهم ولجميع المسلمين - أن أحفر خليجاً من نيلها حتى يسيل في البحر (يعني البحر الأحمر) فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة ، فإن حمله على الظهر (يعني البعير) يبعد ولا نبلغ منه ما نريد ، فانطلق أنت وأصحابك فتشاوروا في ذلك حتى يعتدل فيه رأيكم "[49]. لعلك توافقني أيها القارئ وقد قرأت أسلوب الحوار على أنه لا يمكن أن نتصور أن تحدث اليوم بين حاكم له قوة عمر وسلطانه وعامله على بلاد فتحها .. تشهد هذه الكتب بما كان عليه هؤلاء بل كانت الحرية والنظام يتوازيان .
 
نظرية التعلم الاجتماعي Social Learning Theory
 
تبحث هذه النظرية في سلوك الفرد في المواقف الاجتماعية  كما تحدث فعلا ، وتحاول أن تربط بين السلوك والمعرفية والدافعية والموقف ، بمعنى انها تقدم إطاراً موحداً قابلا للتطبيق بدلا من النظر للتعلم والسلوك إنما يحدث ضمن بيئة مليئة بالمعاني ، ويكتسب من خلال التفاعل الاجتماعي مع الافراد الآخرين ، وبما أن بيئة الفرد مليئة بالأحداث والمثيرات فان الفرد يستطيع أن يطور القدرة على اقتفاء أثر المكافأة وتجنب العقاب في السياق الاجتماعي الواسع ، وكل هذا متأصل بقدرته على الملاحظة ، وقد استطاع البرت باندورا (Bandura) أن يقدم مفهوما للتعلم الاجتماعي .
حيث أكد على أهمية الملاحظة (Observational Learning) معتقدا أن التعلم يمكن اكتسابه بالتعزيز وملاحظة سلوك الآخرين ، ومثال ذلك قد تلجأ  الإدارة إلى تدريب عامل معين من خلال الحاقه إلى عمال آخرين ذوي خبرة عالية لكي يكتسب صفاتهم ومهاراتهم من خلال مراقبة سلوكهم . يقول عمر وقد بلغه عن بعض عماله شئ مخاطباً الناس " أيتها الرعية إن للرعاة عليكم حقاً : المناصحة بالغيب ، والمعاونة على الخير ، ألا وأنه ليس شئ أحب إلى الله من حلم إمام عادل ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام جائر وخرقه ، ومن يأخذ العافية فيمن بين ظهريه يُعط العافية من فوقه "[50] وفي النموذج المناسب Model يبعث عبدالله بن مسعود ويقول له " إني وجهتك معلماً ، ليس لك سوطٌ ولا عصا "[51]
ان التعليم عبر الملاحظة والتقليد يهدف إلى فهم وتطوير السلوك التنظيمي ويكون ذلك باتباع  الخطوات التالية  :
 
تحديد الهدف السلوكي بالضبط والذي من شأنه أن يحسن الأداء التنظيمي .
1.   اختيار النموذج المناسب Model وادارة التعلم المناسبة مثل القدوة.
2.   التأكد من أن الموظف قادر على الارتقاء إلى مستوى متطلبات المهارات للهدف السلوكي .
3.   توفير المناخ التعليمي الايجابي بهدف زيادة دافعية الموظف للانتباه للنموذج المراد تعلمه.
4.   إيضاح الفوائد المترتبة على عملية الهدف السلوكي الجديد .
5.   تكرار تعلم السلوك عبر التدريب .
6.   المحافظة وتقويم الهدف السلوكي الذي تعلمه بالتعزيز المستمر بأنواع التعزيز المختلفة.
 
ويمكن أن تقوم الإدارة  بدور مهم في تعليم الافراد وذلك من خلال توفير الظروف الملائمة للتعلم وتقديم المثيرات المناسبة لدفع العاملين لذلك ، وكذلك توفير المعلومات الكاملة للعاملين مما يسهل عملية اكتساب المعلومات والمهارات والمواقف الجديدة ، كما تقوم الإدارة بتعزيز السلوك المتعلم والمرغوب فيه من خلال التدريب ، ويتدرب الفرد على :
أساليب التعزيز Types Of reinforcement
يستطيع الاداريون استعمال أربعة أساليب من التعزيز للتأثير في سلوك مرؤوسيهم وإحداث التعليم لديهم ، ويعتمد إحداها على الموقف وهذه الأساليب هي :
1 – التعزيز الايجابي Positive Reinforcement
فالإداري يستطيع تكرار سلوك معين للأفراد من خلال تقديم مكافأة مادية أو معنوية  وسوف نتعرض لأمثلة في عهد عمر بن الخطاب والصحابة والقادة في عهده . وهو ما تعلمه عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعزيز الأمثلة الإيجابية وهي كثيرة وجعله لصيق له في كثير من الأحيان هو وأبو بكر " عن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقول : وضع عمر بن الخطاب على سريرته (يعنى بعد ما طعن) فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم ، قال فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي عليه ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر وقال ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك ، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك إني كنت أكثر أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ، فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما " [52] . يقول عمر في خالد بن الوليد لما بلغه وفاته رغم عزله إياه في اختلاف الرؤى ولكن هذا من التعزيز الإيجابي " وما عليهن أن يبكين أبا سليمان وهو جلوس من غير نقع "[53]
 
2 - التعزيز السلبي أو التجنب     Negative Reinforcement or Avoidance
 
ويشير هذا المفهوم إلى تقوية السلوك المرغوب فيه واضمحلال السلوك غير المرغوب فيه ، وهو عبارة عن مثير اذا توقف تقديمه للفرد أدى إلى زيادة تكرار الاستجابات المرغوب فيها ، أي أن الاستجابة تزداد عندما نستبعد المثيرات غير المحببة للفرد ، فالموظف الذي يقصر في عمله ويلقى اللوم من المدير دون غيره يؤدي إلى زيادة الاهتمام من الموظف وتجنب الانتقادات . وثب عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين أوَ رأيت أن كان رجل من المسلمين على رعية ، فأدب بعض رعيته ، أئتك لمقتصه منه ؟ قال آي والذي نفس عمر بيده ، إذاً لأقصنه منه أنَّى لا أقصنه منه ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقص من نفسه ، ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تجمروهم فتفتنوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ولا تنزلوهم الغياض (المهالك) فتضيعوهم "[54]
3 – الاخماد أو الاطفاء Extinction
 
وهو عدم التدخل بغرض إنقاص سلوك غير مرغوب فيه  فالاستجابة يجب أن تعزز من أجل تكرارها والتغافل عنها وعدم اعطائها الاهتمام ، فإنها تأخذ بالتخاذل أو الخمود. وقد أتى رجل إلى عمر فقال : إن ابنةً لي وُئدت في الجاهلية وإني استخرجتها فأسلمت ، فأصابت حداً (زنت) فعمدت إلى الشفرة فذبحت نفسها ، فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها فداويتها فبرأت ، ثم أنها نسكت فأقبلت على القرآن فهي تُخصب إلي فأُخبر من شأنها بالذي كان ، فقال عمر :" تعمد إلى سَترٍ ستره الله فتكشفه ؟ لئن بلغني إنك ذكرت شيئاً من أمرها لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار بل أنكحها نكاح العفيفة المسلمة "[55]
 
 
 
 
 
4 -  العقاب  Punishment
 
ينتج عن العقاب إنهاء أو تقليل سلوك معين بسبب أن هذا السلوك يتبعه مثير لا يحبه الفرد ، فالموظف الذي يغادر عمله قبل إنهاء وقت العمل الرسمي ، فإن رئيسه سيعاقبه من أجل تعديل أو تغيير سلوكه ، وقد يكون العقاب ماديا أو معنويا ومن خلال العقاب سيتعلم الموظف السلوك المرغوب فيه والشكل الثاني يوضح شكل التعزيز .
 
لقد كان عمر رضي الله عنه يحقق وبنفسه في شكاوى الرعية ضد الولاة ، وكان يحرص على استيضاح الأمر والتحقيق الدقيق ثم كان يستعمل من هو القدوة الحسنة في أصحابه وأول تطبيق يطبقه على نفسه وكان التغافل عن الأخطاء من أجل إخمادها في حال عدم تأثيرها على حقوق الناس بل يسترها كما ذكرنا آنفاً ، ويعزيز الجانب الإيجابي وإظهاره من خلال الحافز المادي والمعنوي وسوف نضرب أمثلة في ذلك في مواضعها ، ثم يأتي أمر العقاب وتقدير الفائدة من العقاب ومتى يكون العقاب بسبب معنوي فقد عزل من استهزأ بأحد أفراد الرعية قال قيس بن ابي حازم : استعمل عمر رضي الله عنه رجلا من الأنصار فنزل بعظيم أهل الحيرة عمرو بن حيان فأمال عليه بالطعام فاحتبس الهزل (أي أكثر من الهزل) فدعا الرجل فمسح بلحيته ، فركب الرجل إلى عمر فقال يا أمير المؤمنين قد خدمت كسرى وقيصر فما أُتى بي ما أتى في ملكك ، قال وما ذاك ، قال نزل بي عاملك فلان فأملنا عليه بالطعام والشراب ، ما دعا به فاحتبس الهزل فدعاني فمسح بلحيتي ، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه فقاله هيه ؟! أمال عليك بالطعام والشراب  ما دعوت به ثم مسحت بلحيته ؟
والله لولا أن تكون سنه ما تركت في لحيتك طاقة الا نتفتها ، ولكن اذهب  ، فوالله لا تلي لي عملاً أبداً .
 
شكل اساليب التعزيز :
1 – التعزيز الايجابي :


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
2 – التعزيز السلبي
 


 
 
 
 
 
3 – الاخماد :


 
 
 
 
 
 
4 – العقاب :


 
 
 
 
 
التعلم والسلوك التنظيمي :
 
     من الأهمية بمكان الاعتراف بالدور المحوري والأساسي والذي ساهمت فيه نظريات التعلم في بيان الآلية المناسبة في كيفية التعامل مع السلوك الانساني في الإدارة ، وكيفية تطبيق اسلوب التكييف والتأقلم الفعال التي تهدف إلى تعزيز السلوك المرغوب فيه أو العمل على تخفيض أو تعديل أو اطفاء السلوك الغير مرغوب فيه ويتم ذلك من خلال :
 
 
 
 
 
 
 
1 – منح الافراد الذين يتميزون بالأداء المرتفع تعزيزات وتشجيعات أكثر مما يمنح للأفراد ذوي الأداء  المتوسط  والمتدني .
2 – تعريف الافراد بالأخطاء التي يرتكبونها  حتى يستطيعوا تحسين أدائهم والوصول إلى الفعالية .
3 – الربط بين أساليب التعزيز والتشجيع المستخدمة من جهة وأداء الافراد من جهة أخرى على أن تكون النتائج موائمة مع السلوك.
 
ان نتائج التعزيز الايجابي  حققت نتائج مرغوبة وهي تعديل سلوك العاملين بما يتناسب مع أهداف الإدارة ولكن اسلوب ادارة السلوك الاحتمالي Behavioral Contingency Management (BCM)
 
يكون أكثر فعالية في مواقف أخرى ويعتمد على نموذج عام في تعديل السلوك التنظيمي فيما يتعلق بالمشكلة وحلها ، وهي كما هو موضح بالشكل  التالي :
 
عملية تعديل السلوك  [56]
 

 

 
 
 
 

 
 
 

 
 
 
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق